الصداقة بمنطق آخر



حياة كل منا عبارة عن مدفن واسع نضع فيه أنفسنا منذ اللحظة التي نصحو فيها، تستولي علينا مآت الهموم الصغيرة والانشغلات التافهة، والواجبات الروتينية والمجاملات والامور التي نأتيها كل يوم بدون تفكيير بحكم  العادات.
ندخل الحمام ، نفطر ، نشرب الشاي، نلبس تيابنا ، نقول ضباح الخير لكل واحد نلقاه، نجلس على نفس المكتب في نفس الكرسي ونقول نفس الكلام لنفس الذي يجلس أمامنا في مكان عملنا، نعود إلى البيت من نفس الطريق ونفتح الباب بنفس المفتاح ونقول السلام عليكم لنفس الاخوة والاقارب الذين نلقاهم كل مرة إلخ.... ألف شئ تافه وتافه..
زمن طويل مفقود لا نعيشه وإنا نحمل جتتنا التي تفوح منها رائحة الملل من لحظة إلى لحظة، ونظل نواصل السير كمن يمشي في نومه، ونظل نؤجل ما يعتمل في نفوسنا ونخفي رغباتنا خلف سد عال من الصبر والاحتمال... ونعيش في عبودية يحكمنا ديكتاتور غليظ اسمه الناس ؛ حتى تأتي لحظة حرجة  نفقد فيها الصبر والاحتمال وننظق من الغيظ والقرف والملل وننفجر... ونبحث عن آدمي ننفجر فيه ونبحث عن إنسان لنكلمه ونفضفض معه .. نفتح له قلوبنا ونفوسنا ونلقي أمامه بأسرارنا.
وهذه اللحظة هي بداية البحث عن صديق .. والصداقة ليست علاقة عادية بين رجل ورجل
إن أول شئ يعمد الاصدقاء إلى قتله والفتك به هو العادة .... الصداقة ثورة على العادة وعلى ديكتاتورية المجتمع والناس ... وخلوة .. يتطارح فيها نفسان.
ولذة الصداقة هي هذا العي النفسي .. والمكاشفة والصراحة.
إن المهر الذي يقدمه الرجل للرجل، ومقدم الصداق الذي يدفعه هو إعفاؤه من التكلف والمجاملة .
إنه يقول له:
كن نفسك .. لا تتنازل من أجلي عن شئ من حريتك وهو يفعل أكثر من ذلك.
يقدم له المعونة ليصل إلى كنه نفسه ويعبر عنها . إن الصديق الحقيقي لا تكون له مصلحة خاصة من صداقته سوى أن يفهم نفسه أكثر وأكثر ويصل إلى حريته ، ويعطي صديقه نفس الفرصة في أن يبلغ حريته ويفهم نفسه.
إن غاية الصداقة هي النجاة بالحرية من اختناق المجتمع وصفاقة الناس وثقل العادة.
وأنا لا يزعجني من صديقي أفعاله التي تجرحني ولكن يزعجني أفعاله التي يفقد بها حريته أو أفقه أنا بها حريتي لأنها تهدد الصداقة  في جوهرها.
وصداقة الرجل بلرجل أكثر صفاء ووضوحا من علاقة الرجل بالمرأة والتي تتدخل فيها الطبيعة كطرف ثالث له مصلحة.
الطبيعة لها غرض من التقاء الرجل بالمرأة، فهي تؤيد طفلا من التقاء الاثنين.. ولهذا تشوش عليهما بمطالبها.. ولكنها غير موجودة في علاقة الرجل بالرجل
إن الرجل يطلب الرجل لحاجة روحية صرفة... والفيلسوف الوجودي سارتر له نظرية خاصة في الصداقة.
إنه يعتقد أنها تحتوي على العداوة والخوف والتربص  ... كل واحد يتربص بالآخر ليستولي عليه ويبتلع إمكانياته.. وهو يشعر بالحاجة إليه ... وباالخوف منه في نفس الوقت.
وفي رواية التعلق يقول دانييل لصديقه ماتيو : هل ستصدقني حينما أقول لك إني لم أفهم من أنا ومن أكون وما هي رذائلي... وكأنما يعترض أنفي طرق رؤيتي فلا أستطيع أن أتراجع مبتعدا عنها بما يكفي لكي أراها .. وكنت أنت في تلك اللحظة الوسيط بيني وبين نفسي.
وهذا أثمن شئ لدي ... إذ أن هذا الكائن الجامد الصفيق الذي هو أنا استطعت انت أن تراه في بساطة كما أراك أنت ... وحينئذ أدركت أن الانسان لا يستطيع أن يبلغ نفسه إلا عن طريق بغض الآخر له ... ولست أدري بأي اسم تسمى هذه العلاقات القائمة بيننا .. إنها ليست الحب..
كما إنها ليست الكراهية تماما ... فلنقل إن هناك جثة تفصل بيننا ... وهذه الجثة هي جثثي أنا..
وفي مسرحية الذباب يقول إيجيست لرعاياه:
إنني أريد أن يحمل كل واحد من رعاياي صورتي في نفسه، وأن يشعر ختى في وحدته بنظرتي القاسية تجثم على أشد أفكاره سرية.
وأقول أنا حزين إنني أنا نفسي أصبحت أول ضحية لذلك،  فلم أعد أرى نفسي إلا كما يراني هؤلاء الرعايا .. وإني لأنحني في بئر نفوسهم وأشعر أنها تنفرني وتجدبني... إلهي أيها القدر على كل شئ .. من أكون أنا  غير الخوف الذي يشعر به الآخرون نحوي...
والحب في نظر سارتر ما هو إلا إقناع لإرادة الامتلاك والسيطرة .. العاشق لا ينبغي إلا امتلاك المعشوق بكل الوسائل، وينتهي الصراع بأن يبتلع الواحد الآخر ...
وأفكار سارتر فيها عداوة أكثر مما فيها من الصداقة وفيها يأس من الواقع لا مبر له.
وكل النماذج التي يعررضها سارتر في مسرحياته هي نماذج فاشلة يائسة تنتهي بالانتحار ... ولا يمكن أن تكون هذه النماذج هي الانسانية التي نشاهدها حولنا تضحك وتلعب.
إن السعادة في الصداقة وفي الحب التي جربها كل منا تدل على إمكان قيام العلاقة الانسانية.
والصداقة في نظري صراع عاشق .. العداوة فيها عداوة فاضلة تحفز وتشحذ وتدفع وتستنهض للعمل ... وليست عداوة تهدم وتهزم وتبتلع وتسيطر وتشل القوى .. إنها كعداوة المتسابقين .. تتحدى وتهيب بكل واحد أن يبذل أقصى سرعته...
الصداقة صراع متبادل من أجل أن يرتفع الاثنان إلى معرفة أكثر .. وحرية أكثر .. ودراية أكثر بنفسيهما .. ومعنوية متبادلة مفعمة بالرجاء والأمل .. والحب.
وحينما لا نجد الحب ... وحينما لا نجد الصداقة ... فليس معنى هذا أنه لا يوجد الحب ولا توجد لصداقة ... وإنما معنى هذا أننا لم نجد الرجل الناضج ولم نجد المرأة لاناضجة بعد.
والقلوب الكبيرة قليلة ... نادرة مثل  كل شئ نادر والقلوب الصغيرة موجودة بكثرة النمل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Recent Posts

جميع الحقوق محفوظة 2013 | أعلن معنا | رخصة الإستخدام والنشر | خريطة الموقع | سياسة الخصوصية