لذة الحب



مند أيام كنت أطالع في كتب علمية كبيرة ومراجع كبيرة من ألف صفحة وعدت إلى نفسي القديمة، إلى الطبيب القديم، الذي يضع كل شئ في مخبار ويقيسه ويزنه ويحرقه في بوتقة ثم يذيبه في ماء مقطر ويضع فيه ورقة عباد الشمس، وأحسست أني كلما  توغلت في القراءة العلمية... تغير طعم الحية في فمي.
إن النسيم ليس نسيما يستحم في الضوء ويشعشع روحي ولكنه نتروجين وأوكسجين وثاني أكسيد الكربون ونشادر وهليوم وأرجوان ... وغبار ... ذرات ماء معلقة وأشعة كونية.
والبحر ليس بحران ولكنه أملاح صوديوم، وبوتاسيوم ومغنيزيوم وكالسيوم.
ورغيف الخبز ليس رغيفا طريا شهيا، ولكنه مواد كربوادراتية،  وبروتينات، ودهنيات، وفيتامنات.
وعصير المانغو اللذيذ، عبارة عن كليكوز وفريكتوز وسكروز.
حتى القبلة الممتعة، ليس سوى تدفق هرمونات في الشرايين وإفرازات حمضية عند أطراف الأعصاب.
ولهفة اللقاء ليس سوى هبوط في الأحشاء وانخفاض في ضغط الدم.
ولوعة العشق ارتفاع في نسبة الستوستيرون والاسترين....
وذكريات الحب الجميلة وخيالاته مجرد مواد ومركبات. وقصائد شكسبير الخالدة، كانت قبل أن يكتبها أحماض وقلويات في ذهنه.
شئ لا يطاق.
وألقيت بالكتب الكبيرة والمراجع الضخمة من ألف صفحة.
إن إحساسي وأنا اقبل حبيبتي أني أعطيها شربة هرمونات .... إحساس يغيظ.
ومنظر مصراني الغليظ وهو يهبط في أثناء نظرة حب ملهوفة ... يقتل الحب ... ويقتلني من الاشمئزاز.
وتصور لحظات الفراش الممتعة على شكل سحاحة ومحاليل عيارية. شيئ لا يحتمل .
إننا نشعر بالسعادة لأننا لا نتفرج على أنفسنا ونحن سعداء ولا نحلل طبائعنا في أثناء لحظات السرور.. وإنما نعيش هذه اللحظة ونندمج فيها ... ونكون نحن واللحظة شيئا واحدا، أما رجل العلم فيستأجر لوج ويتفرج فيه على نفسه ويحللها ويقطعها نصفين ... ثم يقطع النصف نصفين تم يعصر عليه ليمونة .. ويراقب التفاعل ، ويسجل النتائج على ورقة.
انه يحضى بمتعة الشعور في سبيل المعرفة.. وهو لهذا رجل مستريح على الدوام بعيد عن زوابع القلق لان استمتاع المعرفة متل استمتاع الشطرنج، هادئ مسترخ على مقعد، أما العاطفة، فهي فوران وغليان وحركة في داخل الوجود كله.
إن الطبيب حينما يكشف على امرأة عارية لا ينظر إليها بقلبه، ولكنه ينظر إليها بعقله.. وانه يقطع صلة الشعور التي تربطه بمريضته، ويكتفي بالتفرج ... وهو لهذا لا يبكي إذا اكتشف أن مريضته عندها سرطان ... ولا يرقص من الفرح إذا اكتشف أن عندها زكاما .... انه حانوتي يضع الميت في كيس دبلان كأنه يضع بضاعة عادية أو أدرب قمح.
والطبيب لا يندمج في حالاته، وإنما يقف بالباب يسجل ملاحظاته ... الحرارة، النبض، التنفس، والدم وما إلى ذلك، مجرد ملاحظات فكة يضعها في رسم بياني، ويستخرج منا تشخيصا وعلاجا. يصنع كل هذا ببساطة للمريض وبدون انفعال، وبدون عاطفة. لان العاطفة والانفعال والحزن والفرح من شان المريض وليست من شانه... أن المريض في حالة حياة ... وهو في حالة فرجة على الحياة.
تذكرت هذه التجربة وأنا جالس مسترخ في غرفة صديقي . وعيني في عينيه، ومنحى الهواء ... معلق. يفكر وقلبي معلق معه، والاثنان معلقان من حبال أعصابي يرقصان رقصة خيالية مجنونة.
وكان صديقي يتكلم في السياسة، وأنا أجيب عليه من وقت لآخر بكلمة: نعم، آه ، معلوم مضبوط ، في محله.
وأخيرا سمعت صديقي يضحك ويقول وهو يهزني:
-         ما هو الذي في محله يا رجل؟ أقول لك نعلن الحرب على انجلترا ... وتقول في محله؟ أنت باين عليك مش في محلك هههه.
وأخذ يقهقه ... ثم قال:
-         اسمع .... انت طريقتك في الحب هذه لا تعجبني.
-         أية طريقة؟
طريقك أنت تنزل بدماغك وأعصابك وقلبك ودمك ولحمك في كل غرام هكذا .... لا ينفع ...
-         لم أفهم؟
-         بالظبط ..أنت لم تفهم .... أنت لم تفهم كيف تحب لغاية الآن؟
-         علمني كيف أحب  إذن؟
-         حب بحاجة وخلي بحاجة .. حب بلسانك ... حب بعقلك ... حب بعينيك ... خلي قلبك لنفسك ولنا ... ما نتدمجش كده .... اتفرج ... بوس كانك بتتفرج ... روح للميعاد كأنك رايح للمعرض.
-         يعني ابقى ناقد لا عاشق.
-         مفيش طريقة غير كده وّإلا البنات يشربوك ويحلو بيك.
وهنا تذكرت التجربة التي مرت بي وأنا غارق في الكتب الكبيرة من ألف صفحة.
إن صديقي يعتقد أن الصيانة الوحيدة للعاشق هي أن يتحول إلى طبيب يسجل ملاحظات عن تجارب القبل والأحضان ولا يندمج فيها. وصديقي على صواب. فوظيفة الملاحظ أكثر راحة من وظيفة الرجل الذي يعيش في دوره، إنه لا يكسب ولا يخسر لأنه خارج الحلقة. إنه مجرد حكم ، ولكن ثمن هذا النوع من الراحة فادح، فالملاحظ لا يعاني اللذة ولا الألم، إنه يتمتع بنوع بارد من المتعة، هو المعرفة ، ويخسر في مقابله لذات الانفعال.
إن صديقي يريد أن يجنبني الألم بأن يجنبني اللذة أيضا، ويحولني إلى جرد محرر وصحفي حتى في علاقاتي العاطفية.
ونظرت إلى صديقي طويلا...
ولأول مرة تأكدت أنه لا دكتور يحمل ميداليات التشريح والفيسيولوجيا على صدره... وأنا غلبان ... دكتور بالوراثة فقط.
وحينما كنا نسير في الطريق أنا وصديقي ... كنت ما زلت أفكر في هاذين الأسلوبين من الحياة: أسلوب الذي يعيش، وأسلوب الذي يتفرج ... والمكسب والخسارة الذي يتكلفه كل أسلوب، والاختيار الذي اختاره إذا كان لابد من اختيار.
كان صديقي ما يزال يتكلم في السياسة ، وكنت ما أزال أجاوبه بنفس الأجوبة.
وكان من الواضح أنني اخترت طريقي مند زمن طويل وقبلت التكاليف...
وحينما بلغت منزلي .. وتمددت في فراشي كنت ما أزال أفكر في لذة الحب...
لقد اكتشفت أن الطريق إلى اللذة في الحب هو الاندماج ... معايشة التجربة بخسائرها ومكاسبها .... والنبض معها في كل نبضة ... والتأوه معها في كل آهة ...
ولكن بقي سؤال ظل يشغل بالي ...
ما هي حقيقة الحب ؟
إن الشعور بالحب والتلذذ به شيئ ... وحقيقته شيئ آخر ... وأنا أريد أن أعرف الحقيقة ... ولا يكفيني أن أشعر بها ...
أريد أن أصل إلى معرفة واضحة لحقيقة الحب .. ما معنى كلمة حب بالضبط؟ ..... ومتى يكون الحب حقيقيا وهل هناك حب حقيقي؟...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Recent Posts

جميع الحقوق محفوظة 2013 | أعلن معنا | رخصة الإستخدام والنشر | خريطة الموقع | سياسة الخصوصية